يقول: "ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا هذا التفصيل، لهدوا إلى سواء السبيل" هذه من العبارات الجيدة للمصنف، فلو أن أهل التعطيل -الذين عطلوا الله عن صفاته ونفوا علوه فوق خلقه- فصلوا هذا التفصيل؛ كما هو واضح من الحجج الدامغة والبراهين الجلية نقلاً وعقلاً؛ "لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل" وهو الوحي؛ لأنه لا يمكن أن يتعارضا أو أن يختلفا أو يتناقضا -أعني النقل الصحيح والعقل الصريح- كما بين ذلك شيخ الإسلام في مؤلفه الفريد درء تعارض العقل والنقل، لكنهم أتوا بأوهام باطلة، وأخذوا ينقلون النقول الباطلة مما أوقعهم في الأوهام.
ومما ينبغي أن يشار إليه أن مما أوقعهم في هذه الأوهام أنهم وجدوا روايات موضوعة وباطلة فيها أشياء لا يصدقها العقل، ولو أنهم أخذوا العلوم من أهلها، وأتوا البيوت من أبوابها، وقالوا: يا أهل الحديث، ويا علماء الرجال، ويا علماء النقد! بينوا لنا هذا الحديث ودرجته؛ لبينوا لهم -وقد بينوا ذلك رضي الله عنهم- لكن القوم لديهم أوهام فلسفية، وظنون وتخرصات أخذوها عن اليونان والهنود وأمثالهم، ثم جاءت شبهات نقلية من الإسرائيليات من كلام أهل الكتاب، أو عن طريق نقلة ليسوا بأثبات ولا ثقات، فلما وجدوا ذلك الخليط المتمازج بنوا عليه إنكار الحق الواضح الصريح الذي ينكر هذا الخليط من فلسفة أو كذب أو نحوه.
مثلاً: ما ورد في بعض الاسرائيليات من أن الأرض على قرن ثور، والثور على حوت... إلخ، وهذا ليس له أصل ولم يصح وليس من ديننا أبداً، فلما وجد أهل الأهواء وأهل الكلام هذا الخبر الباطل الذي لا يصح عقلاً؛ قالوا: من يثبت العلو يعتمد على هذا ويعتقده، إذاً: ننفي العلو.
والعلماء الأثبات -كما سبق في الرسالة العرشية- أبطلوا هذه الروايات وردوها، وأما ما صح فقد بينوه بياناً شافياً، وبينوا أنه الحق وأنه لا يعارض العقل أبداً.
ولا يجوز أن نعمل العقول في مخالفة ما صح وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ الواجب في ذلك الإيمان والتسليم دون معارضة ولا منازعة ولا مدافعة، وهذا هو المتحتم على كل مؤمن، وإلا فليس هو بمؤمن.
وثمة مسألة مهمة جداً ينبغي تذكرها وهي:
لو أن إنسان من أهل الجاهلية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد! قد سمعت قولك ووعيت ما قلت عن ربك، ويظهر لي أنه الحق لكن لن أصدق به ولن أعتقده حتى أعرضه على شيخ قبيلتنا... فهل يعد مثل هذا الإنسان مؤمناً مسلماً؟!
إن هذا ليس بمسلم، ولا يعد مؤمناً..
وهكذا فعل بعض الوفود -كما في السيرة- فبنو تميم ذهبوا إلى أكثم بن صيفي يسألونه!
ولذلك فالذين لا يؤمنون بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعرضوه على أي شيء كائناً ما كان؛ ليسوا بمؤمنين.
فإذا جاء أهل الكلام وقالوا: لا نؤمن بهذه الأدلة -كأدلة علو الله- وأدلة صفاته مثلاً -بمجرد ثبوت إسنادها وفق قواعد المحدثين- بل لا بد أن نعرضها على عقولنا وعلى البراهين والقواطع العقلية؛ فنقول: أنتم إلى الآن لم تؤمنوا؛ لأنكم إذا آمنتم بعد العرض على عقولكم -كما تزعمون- لم تؤمنوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما بما جاء به العقل، ولو جاء حديث صحيح لا تقبله عقولكم -كحديث النزول مثلاً- لقلتم: لا نقبله لأنه لم يوافق العقل..
إذاً: هم آمنوا بعقلهم لا برسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه.
إن الإيمان الحقيقي هو التسليم والإذعان لجميع الشرع وهذا حال المؤمنين دائماً.